الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والثلاثين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة والثمانين وهي قوله تعالى:
الكتاب الذي جاءهم من عند الله والذي يصدق ما عندهم في التوراة هو القرآن الكريم.
أي هل من معرفةٍ سريعةٍ، بديهيةٍ، عَفويةٍ، فطريةٍ، صادقةٍ، أكيدةٍ، ثابتةٍ، كأن يعرف الإنسان ابنه؟! قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ لابد من أضع بين أيديكم هذه الحقيقة: الاختلاف عند نقص المعلومات شيءٌ طبيعي، كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا، أما الاختلاف عند توافر الحقائق قد يعزى إلى الحسد، والبغي، والمصالح، والأهواء، والنزعات، وما إلى ذلك، قد نختلف لا لأن الحق معي أو معك، الحق واضح، ولكن قد نختلف لمصالح، لأهواء، لمطالب، لغرائز، لحظوظ، لمكاسب قد نختلف، هذا أقذر أنواع الخلافات بين الناس.
العلم بين أيديهم، فإذا أردنا أن نلتفت إلى المسلمين اليوم، الإله واحد، والنبي واحد، والقرآن واحد، والتشريع واحد، فلمَ هذا الاختلاف؟! اختلاف البغي والحسد، اختلاف تضارب المصالح، اختلاف الأهواء، اختلاف المكاسب، اختلاف الزعامات، هذا سبب خلاف المسلمين فيما بينهم، لذلك: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ التوراة، والإنجيل، والقرآن، من مصدرٍ علويٍ واحد، إذاً:
فحوى دعوة الأنبياء واحدة، أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن تعبده.
[ سورة هود ]
هذه الآية: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ تكررت عشرات المرات، الدين كله كلمتان، توحيد الألوهية، وعبادة الإله الواحد، لذلك الخلاف خلاف المصالح، دققوا الآن: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي الحقائق التي في توراتهم هي نفسها في القرآن الكريم: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ من أجل أن يكيدوا للعرب من أهل يثرب الأوس والخزرج، كانوا يتباهون بأنه سيأتي نبي وسيكونون أول من يؤمنون به، قال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ يمكن أن يقبل الله عزَّ وجل منك عذراً أنك لا تعلم، لكن إذا علمت ليس لك عذر أبداً، العلم خطير، حجةٌ لك إن طَبَّقْتَهُ، وحجةٌ عليك إن لم تطبقه، هذا الذي يعلم ولا يعمل، هذا الذي يعرف وينحرف، هذا غضب الله عليه، ومعنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾
المغضوب عليهم هم الذين عرفوا وانحرفوا، هل من مسلمٍ على وجه الأرض لا يعلم أن الصلاة حق؟ وأن الصيام حق؟ وأن الحج حق؟ وأن الزكاة حق؟ وأن الصدق حق؟ وأن الأمانة حق؟ وأن الوفاء بالوعد حق؟ وأن الحفاظ على العهد حق؟ وأن الإنصاف حق؟ هذه أشياء بديهية، فلماذا يأكل المسلمون أموال بعضهم بعضاً؟ لماذا يرفعون أمرهم إلى القضاء وفي القضاء عشرات بل مئات الألوف من القضايا؟ لماذا يأكل بعضهم مال بعض؟ لماذا يعتدي بعضهم على أعراض بعض؟ هذا الذي عرف وانحرف له عند الله جزاءٌ كبير.
على الإنسان أن يكون معه حجة لله يوم القيامة عن كل عمل يقوم به في الدنيا:
تجري الآن مناقشة دقيقة جداً، خالق الكون الذي منحنا المنطق يقول لهؤلاء: أنتم تدَّعون أنه إذا جاء نبي سوف تسبقون الناس إلى الإيمان به، لقد جاءكم هذا النبي وجاء بكتابٍ مصدقٍ لما في كتابكم التوراة، لمَ كفرتم به؟ مصالح.
لذلك أيها الإخوة؛ الإنسان إما أن يستجيب للحق، وإما أن يستجيب للهوى، حقّ أو هوى، خيرٌ أو شر، آخرةٌ أو دنيا، إحسانٌ أو إساءة، إن لم تكن على أحد الخَطّين فأنت على الثاني حتماً، إن لم تكن مع أهل الآخرة فأنت من أهل الدنيا، إن لم تكن مصدقاً بالحق فأنت قد قَبِلت الباطل، إن لم تكن مُنصفاً فأنت ظالم، إن لم تكن رحيماً فأنت قاس أبداً، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أنا الذي يلفت نظري كيف يتوازن المسلم المعاصر؟ كيف يعلم أن هذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وكيف يقترف هذه الحُرُمات؟ وكيف ينام متوازناً؟ كيف يغمض له جفن؟ كيف يبيت والله ليس راضياً عنه؟ يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: "عجبت لثلاث، عجبت لمؤملٍ والموت يطلبه، وعجبت لغافلٍ وليس بمغفول عنه، وعجبت لضاحك ملء فيه ولا يدري أساخطٌ عنه الله أو راضٍ؟!!".
طبعاً هذا درسٌ لنا أيها الإخوة؛ أنت معك حجة لله عزَّ وجل؟ أحياناً يسألني أخ: ماذا أفعل؟ دائماً جوابي إليه: هل معك حجة لله عزَّ وجل يوم القيامة؟ أي إذا منحت ابناً بيتاً استثناءً من دون إخوته، معك حجة؟ يقول لي: هذا ابني عاجز، هذا كلام مقنع، هذه حجةٌ لك يوم القيامة، حينما تخصّ ابناً عاجزاً مشلولاً، عنده عاهة، ببيت يؤجره ليأكل من أجرته استثناءً، وفي حياتك، وهبةً، معك إلى الله حجة، أما لأنه ابن زوجتك الجديدة وقد ضغطت عليك، أما ابن القديمة لا تعبأ به، سوف تحاسب يوم القيامة حساباً شديداً .
يقول لي موظف: أأكتب هذا الضبط؟ قل له: هل معك جواب إلى الله يوم القيامة؟ دعك من رؤسائك، معك جواب إلى الله؟ إن كنت ظالماً لهذا الإنسان سوف يقتص الله منك، واتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
حساب الأغنياء يوم القيامة:
يا إخواننا الكرام؛ أتمنى على كل أخٍ مؤمن دائماً وأبداً هيِّئ لله جواباً، لو أنه سألك: لماذا طلَّقتها؟ لماذا سلبتها مالها؟ لماذا أخرجت هذا الشريك من الشركة؟ لماذا لم تعطِ هذا الابن ما أعطيت إخوته؟ لو أن الله سألك ماذا تجيب؟ هل معك حُجَّة؟
يروى أن سيدنا عمر بن عبد العزَّيز، كان يصلي في مصلاه ويبكي، دخلت عليه زوجته فاطمة، قالت له: "يا أمير المؤمنين ما الذي يبكيك؟ قال: دعيني وشأني، قالت: قل لي بربك ما الذي يبكيك؟ قال: دعيني وشأني، فلما ألحَّت عليه، قال: ولِّيت هذا الأمر فكرت في الفقير الجائع، والبائس الضائع، وذي العيال الكثير، والدخل القليل، وفي ابن السبيل، وفي الشيخ الكبير، وفي المرأة الأرملة، وفي الطفل الصغير، وفي، وفي -عدّد لها عشرات الحالات المؤلمة في مجتمعه-قال: فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً، وخفت ألا تثبت لي حجةٌ عند الله فلهذا أبكي" .
أهم شيء أن يكون معك حجة لله عزَّ وجل، لمَ أهملت هذا الولد حتى خرج عن منهج الإسلام؟ لمَ امتنعت عن تزويجه وأنت قادر أن تزوِّجه؟ زنا، لعل هذا الزنا في صحيفتك، إذا كنت قادراً لمَ لم تزوجه؟ لمَ لم تختر لابنتك إنساناً مؤمناً آثرت المال على الإيمان فضيَّع دينها وأخرجها عن استقامتها؟ أرضيت أن يأخذ ابنتك إنسان غني فيخرجها عن دينها؟ إذا سألك الله بماذا تجيب؟ لمَ لم تربِّ ابنتك؟ هذه البنت التي تظهر كل مفاتنها في الطريق، سوف يُسأل أبوها يوم القيامة: كيف سمحت لها أن تخرج هكذا؟ هل نظرت إلى ثياب خروجها؟ أمامنا مليون سؤال.
ورد في الأثر: يُحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة، فريق جمع المال من حلال وأنفقه في حرام، فيقال: خذوه إلى النار، حسابه سريع، شديد لكنه سريع، قتل إنسان قتيلاً فرضاً واعترف بالجريمة وعن عمد وإصرار، يُحكم بالإعدام بجلسة واحدة، الحكم قاس لكنه سريع، لا يوجد حاجة للمناقشة، اعترف، وعن سابق إصرار وتصميم، فيقال: خذوه إلى النار، فريق آخر، جمع المال من حرام وأنفقه في حلال، عنده ملهى وتزوج واشترى بيتاً، الزواج وشراء البيت إنفاق مشروع، أما الملهى فدخله غير مشروع، الأول تجارة مشروعة لكن أنفقها على الموائد الخضراء والليالي الحمراء، هذا صار مصطلحاً بالمجتمع المخملي أو الجنفيص هذا ليس مخملياً، فالذي جمع المال من حلال وأنفقه في حرام يُقال: خذوه إلى النار، والذي جمع المال من حرام وأنفقه في حلال يُقال: خذوه إلى النار، طبعاً أما الذي جمع المال من حرام وأنفقه في حرام هذا مباشرة، الأبواب مفتحة رأساً، بقي الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال، قال: هذا قفوه فاسألوه هذا السؤال، هل ضيّع فرض صلاةٍ؟ هل قال من حوله: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصَّر في حقنا؟ هذا الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال.
على المؤمن أن يهيِّئ لله جواباً عن كل شيءٍ يفعله:
هناك سؤال أيها الإخوة؛ أنت كل عمل، كل حركة، كل سكنة، كل نظرة، كل ابتسامة، كل عبوس، كل عطاء، لو قَبَّلت طفلاً وتركت الطفل الثاني، لو خصصت ابناً ولم تَخُصَّ الثاني، لو مِلت مع زوجةٍ فأكرمتها وأغدقت عليها كلها شيء وأهملت الثانية، أخشن طعام للثانية، أسوأ بيت للثانية، أقسى معاملة للثانية، هل هيأت لله جواباً؟ معك جوابٌ إلى الله عزَّ وجل؟
إخواننا الكرام؛ هذا أهم شيء بالدرس، هيِّئ لله جواباً عن كل شيءٍ تفعله، عن كل حركةٍ وسكنةٍ، ونظرة وابتسامةٍ، وإنفاقٍ وإقتارٍ، ومنعٍ وعطاءٍ، ووصلٍ وقطع، وود وجفاءٍ، يجب أن تهيِّئ لله جواباً، قال لي مرة أخ يعمل في التموين: هل يسمح لي أن أكتب ضبوطاً؟ قلت له: اكتب ما شئت، وأرسل إلى السجن ما شئت ومن شئت، لكنك إذا كنت بطلاً يجب أن تهيِّئ لله جواباً عن كل ضبط، لماذا كتبت هذا الضبط؟ أكنت ظالماً له؟ الله سيقتص منك.
أنا الذي أراه أيها الإخوة؛ أن كل ذكائك، وكل عبقريتك، وكل تفوِّقك في أن تكون أديباً مع الله، وقّافاً عند كلامه، مؤدياً لحقوق العباد، مطبقاً لمنهجه العظيم، الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أنا أقول: يمكن أن يقبلك الله إذا معك عذر، الحلال بيِّن، الحرام بيِّن، وتجد معظم الناس يأخذون ما ليس لهم ظلماً، وعتواً، واستكباراً، ومكابرةً، يركبون رؤوسهم، الله عزَّ وجل كبير، وسوف ينتقم منهم.
أشدّ الناس حسرة وندماً يوم القيامة من باع آخرته بدنياه:
قال تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)﴾
بغياً أي حسداً: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي اشترى الكفر، دفع ثمن الكفر الجنة، أسوأ صفقة في التاريخ، ما من إنسانٍ أشدّ حسرة وندماً يوم القيامة كالذي باع آخرته بدنياه، أي مصالحه مع الكفر، وسع هذه، أحياناً الإنسان تكون مصالحه مع المعصية، مصالحه أن يكون مع إنسان، شريك صاحب مطعم يبيع الخمر مصلحته أن يبقى شريكاً في هذا المطعم، يقول لك: دخل كالنهر يدرّ علبنا، والآخرة؟ هذا مثل بسيط، شخص شريك بمطعم خمس نجوم يبيع خمراً، فإذا آثر هذا الدخل الكبير على الآخرة!!!
يجب أن تؤثر طاعة الله على طاعة الأقرباء وعلى مصالحك الشخصية:
إخواننا الكرام؛ هناك آية والله أنا أسميها قاصمة الظهر:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
أي إذا كان الأب أو الابن أو الزوجة أو العشيرة أغلى عليك من طاعة الله، كأن يضغط أبوك عليك أن تعصي الله فاستجبت لضغطه وعصيت الله، إذا الزوجة ضغطت عليك لتؤمِّن لها شيئاً لا تملك ثمنه فأكلت مالاً حراماً وأرضيتها، إذا آثرت الأب، أو الزوجة، أو الأخ، أو الابن، أو العشيرة على طاعة الله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخوانكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ﴾ أي عند التعارض إذا كان الإنسان يسكن بيتاً مريحاً جداً، اغتصبه اغتصاباً، إذا كان هذا البيت الجميل، المريح، الذي أجرته رمزية، أغلى عليك من الجنة، هنا المشكلة، ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ تجارة محرمة، طريقة بالتعامل غير صحيحة، بضاعة محرَّمة، شراكة محرّمة، أسلوب محرّم.
ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخوانكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ هؤلاء الأقرباء، ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أحبّ إليكم من أمر الله في قرآنه، ومن سُنَّة النبي في سنته، هذا معنى ﴿مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ، ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ مادام أي شيء من هذه الأشياء، زوجة، أب، ابن، أخ، قريب، عشيرة، أو مال وفير من شُبُهَة، أو بيت مريح مُغْتَصَب، أو تجارة رابحة لكنَّها محرَّمة، إذا كانت هذه الأشياء أحبّ إليك من طاعة الله، وطاعة رسوله، وجهاد في سبيله، فالطريق إلى الله غير سالك، مسدود: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ .
بالمقابل أيها الإخوة، والله الذي لا إله إلا هو، ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، الآمر ضامن، والله زوال الكون أهون على الله من أن يُضيِّع شاباً آثر طاعة الله على دُنياه، من أرضى الناس بسخط الله أسخط الله عنه الناس وسخط عنه الله، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه ورضي عنه الناس، إذا آثرت آخرتك على دنياك ربحتهما معاً، والله، إذا آثرت دنياك على آخرتك خسرتهما معاً.
لن يصل الإنسان إلى الله إلا إذا استوى عنده التبر والتراب:
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ هذه النفس الثمينة التي جعلها الله أمانةً بين يديك، حيث قال:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
أنت تضيع قيمة نفسك بالدنيا، إنسان يحجبُ نفسه عن الله بعرضٍ من الدنيا قليل، والله لو عرفت ما عند الله والله لا تبيع هذه الصلة بملء الأرض ذهباً، والله لن تصل إلى الله إلا إذا استوى عندك التِبر والتراب، التِبر في المعصية كالتراب، اركله بقدمك، لكن إذا علم الله منك هذا الصدق، والله الذي لا إلا هو لن يخَيِّبك، تأتيك الدنيا وهي راغمة، ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أحياناً الإنسان من أجل دنياه، إرضاء الناس، من أجل أن يظهر، من أجل أن يفتخر، يعصي الله عزَّ وجل، من أجل أن يعيش حياة فيما يبدو ناعمة يأكل المال الحرام، يُطعم أولاده المال الحرام.
قد ينصر الله الكافر العادل على المُسلم الظالم لأن الله عَدْل:
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً﴾ ، ﴿بغياً﴾ مفعول لأجله، أي كفروا بما أنزل الله على النبي الكريم من قرآن كريم بدافع الحسد فقط، مرة أرسل النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر ليُقَيِّمَ تمرهم حسب الاتفاقية، فأرادوا أن يُغروه ببعض المال فلعله يُخفِّض التقدير، أرادوا أن يرشوه بحلي نسائهم، فقال عبد الله بن رواحة: "والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي -من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم-ولأنتم عندي أبغض إلي من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم" ، عدل، فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا غلبتمونا.
قد ينصر الله الكافر العادل على المُسلم الظالم، لأن الله عَدْل، مثل أضعه بين أيديكم: إذا إنسان نظيف جداً إلى درجة عالية جداً، وله عدوٌ لدود نظيف مثله، وله صديقٌ بهلول، يكيل له المديحَ جزافاً لكنه قذر، قلبك مع من؟ أنت نظيف جداً، لك عدو نظيف مثلك، لك صديق بهلول منافق يمدحك بلا حدود، لكنه قَذِر، أنت مع مَن؟ مع الذي بينك وبينه قاسم مشترك، أليس كذلك؟ لذلك قد ينصر الله الكافر العادل على المُسلم الظالم، ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ لدينا عذاب أليم، ولدينا عذاب عظيم، ولدينا عذاب مهين.
تناقض بني إسرائيل مع أنفسهم:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)﴾
دقق الآن كيف أن الله عزَّ وجل يُخاطبهم: أنتم ترفضون أن تؤمنوا بما جاء من عند الله عزَّ وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، جيد، بمن تؤمنون؟ بما أنزل عليكم، دقق الآن: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ وهو القرآن الكريم: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ هل في توراتكم أن النبي يُقْتَل؟ إن كنتم تزعمون أنكم مُتبعون لكتابكم ولن تتبعوا إلا كتابكم، فهل في كتابكم ما ينُصّ على أن النبي يُقتل؟ أرأيت إلى هذا التناقُض؟ لو مشى الإنسان عارياً وما أبشعه، كان علينا أهون من أن يتناقض مع نفسه، يقول لك أحدهم: والله أنا سألت إمام جامع وقال لي: ليس فيها شيء، انتهت عنده المشكلة، بهذه البساطة؟ متأكد من علمه؟ متأكد من اختصاصه؟ لماذا إذا أردت أن تبيع بيتك تسأل خمسين دلالاً؟ لماذا تكتفي في شؤون الدين بإنسان عابر؟ إنسان التقيت به صدفةً وسألته فأفتى لك وانتهى الأمر، ولا تعيد هذا السؤال على أحد، بينما من أجل بيع بيتٍ تسأل مئة دلال، ولا تبيع البيت إلا بعد بحثٍ ودرسٍ وتمحيص ودراسة واستقراء، وما إلى ذلك؟ هذا تناقض.
أمثلة عن كلام يفتريه المقصِّرون على الله:
أخي هناك فتوى بمصر تجيز الربا، هذه فتوى رسمية!! بيتك سعره الرسمي ثلاثمئة ألف، ثمنه اثنا عشر مليوناً، تبيعه بسعره الرسمي؟ لماذا تقبل فتوى رسمية ولا تبيع بيتك بالسعر الرسمي؟ هذا تناقض، الإنسان دائماً يتناقض، يقول: نشأت ببيئة هكذا، لماذا يرفض ابن التاجر أن يكون تاجراً، قد يكون عالماً، يقول لك: مَللت من المال، ولماذا يرفض ابن العالم أن يكون عالماً؟ يقول لك: مللت من العلم أريد تجارة، أريد أموالاً، لماذا غيَّرت بيئتك؟ لمَ لم تقل أنا نشأت هكذا وسأبقى هكذا؟ هذا كلام يفتريه على الله المقصِّرون، بإمكانك أن تفهم كل شيء، وأن تُبدل كل شيء، وأن تعتنق بأي عقيدة، وأن تلتزم بأي شيء مقتنعاً به أنت، مرة دعيت إنساناً لحضور درس، فأجاب: والله لا أقدر يا أستاذ، أنا أحضر مع والدي بالجامع الفلاني، لم يسمِّ لي اسم هذا الجامع، وهو يشتغل بتهريب الأقمشة، قلت له: احضر عندي درس تهريب لابأس، أي أنت تقبل أن تهرب أقمشة ولا تقدر أن تحضر درساً تهريباً؟!!
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ نحن لا نعترف بالقرآن، بالتوراة، لابأس، الله عزَّ وجل سار معهم، قال: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يوجد في الآية كلمة رائعة وهي كلمة ﴿من قبل﴾ أي لن تستطيعوا أن تقتلوا هذا النبي، اطمئنّوا لن تستطيعوا.
أمثلة عن حفظ الله تعالى لسيدنا محمد من القتل:
قال أحدهم في إحدى المعارك: أين محمدٌ، لا نجوت إن نجا، خرج النبي له بنفسه هكذا، وأمسك رمحاً ووكزه به وكزةً فكاد يموت منها وولّى هارباً، كان يُظهر شجاعة كبيرة، فقيل له: مالك تراجعت ووليت هارباً؟ قال: والله لو بصق عليّ لقتلني.
كان عمير بن وهب جالساً مع صفوان بن أمية، قال لصفوان: والله لولا أطفالٌ أخاف عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون ركبتني ما أُطيق سدادها، لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، صفوان رآها فرصةً ذهبيةً لا تُقدر بثمن، فقال: أما أولادك فهم أولادي ما امتدَّ بهم العمر، وأما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت فامضِ لما أردت.
سقى سيفه سُمّاً ومضى إلى المدينة ليقتل محمداً، رآه سيدنا عمر في الطريق ، فقال: هذا عدو الله عُمَير جاء يريد شراً، قيَّدَهُ بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي وقال: يا رسول الله هذا عدو الله جاء يريد شراً، فسيدنا النبي قال له: يا عمر أطلقه ، أطلقهُ، قال له: ابتعد عنه ، ابتعد، قال: ادن مني يا عمير ، اقترب، قال له: سَلِّم علينا ، قال له: عِمت صباحاً، قال له: قل: السلام عليكم؟ قال: لست بعيدَ عهدٍ بسلامنا، هذا سلامي، بغلظة، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفك ابني من الأسر، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: يا عمير ألم تقل لصفوان: لولا ديون ركبتني، وأطفال أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه؟ وقف، قال له: واللهِ، إنك لرسول الله، والله هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لم يسمعه أحدٌ إلا الله وأنت رسوله، وأسلم.
بقي صفوان ينتظر الخبر السار قتل محمد، كان يخرج إلى ظاهر مكة كل يوم ليتلقى أخبار القتل من الركْبَان ففوجئ بعد أيام طويلة أن عميراً قد أسلم، الله عزَّ وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
فهذا حفظ الله عزَّ وجل، لن يستطيع أحد أن يغتال النبي، لأنه إذا اغتاله تحدَّى الله عزَّ وجل، وأُنهيت الدعوة.
النبي الكريم لمصداقية الوحي عنده لما أخبره الله أنه يعصمه من الناس صرف حراسه:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ معنى هذه الآية: لن يستطيع أحد أن يغتالك، إذاً ماذا نفعل بقوله تعالى:
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
قال العلماء: النبي لا يُقتل إلا إذا أدَّى مهمته كاملةً بعد انتهاء التبليغ.
أيها الإخوة؛ ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ كان سبب إسلام إحدى النساء في ألمانيا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه الوحي: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ صرف حَرَسَهُ، معنى ذلك هو يُصدِّق الوحي تصديقاً لا حدود له، لو كانت القضية قضية رؤيا أو أحلام أو شيء مفتعل، لما جاء قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ يبقى معتمداً على حُرَّاسِهِ، أما النبي عليه الصلاة والسلام لمصداقية الوحي عنده، لما أخبره الله أنه يعصمه من الناس صرف حراسه.
مخالفة بني إسرائيل تعاليم دينهم فأصبحوا كالوحوش:
﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ طبعاً هذه حجة عليهم، مرة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجل يبدو أن له شأناً، قال له: من الرجل؟ قال: عدي بن حاتم، رحب النبي به، قال: وانطلق به إلى البيت، في الطريق استوقفته امرأةٌ مسنة ضعيفة وقف معها طويلاً يكلمها في حاجتها، قال: والله ما هذا بأمر ملك، علم أنه نبي، في البيت ألقى إليه وسادةً من أدمٍ محشوة ليفاً، قال: اجلس عليها ، قلت: بل أنت. قال: بل أنت، قال: فجلست عليها وجلس هو على الأرض، قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تكُ ركوسياً؟ قال: بلى -الركوسي دين بين النصرانية واليهودية-قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمِرباع تأخذ ربع أموالهم؟ قال: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل في دينك؟ أي أنا معك، ألم تكن هكذا؟ قال له: نعم، كيف تخالف دينك؟ هؤلاء الذين يقتلون الشعوب، قال الله:
﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)﴾
أين هي الرأفة والرحمة؟! والله قلوبهم كالوحوش، وحوش لا كالوحوش، الوحوش أرحم.
الكون بوضعه الراهن أعظم معجزة فمن لم يؤمن به لن يؤمن بخرق قوانينه:
قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)﴾
أي هل من المعقول أن تمشي مع نبي عظيم وراءك فرعون بقوته وجبروته وجيشه وأسلحته وقسوته وظلمه أمامك البحر الأمل بالنجاة صفر؟
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)﴾
هؤلاء اليهود رأوا بأم أعينهم كيف أن البحر أصبح طريقاً يبساً، وساروا مع موسى في البحر، وتبِعهم فرعون، فلما خرجوا من البحر عاد البحر بحراً، عاد الطريق اليبس بحراً، فغرق فرعون، هل من آيةٍ أعظم من هذه الآية؟ هل من آيةٍ أعظم في الدلالة على صدق هذا النبي العظيم من هذه الآية؟ وبعد أن خرجوا من البحر:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾
نريد إلهاً نعبده من دون الله.
إذاً المعجزات الحسِّية لا تقدِّم ولا تؤخِّر، هذا الكون بوضعه الراهن أعظم معجزة فمن لم يؤمن به، بقوانينه، وسننه، وعظمته، لن يؤمن بخرق قوانينه، أكبر شاهد: معقول أن ترى البحر أصبح طريقاً يبساً وأنت تمشي مع نبيّك؟ فلما خرجوا من البحر عاد الطريق اليبس بحراً، هل من آيةٍ أعظم من ذلك؟ فكيف يقول هؤلاء: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؟!!
السماع عند الله عزَّ وجل هو الاستجابة:
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أصبحت العصا ثعباناً مبيناً، نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ضرب البحر بعصاه فإذا هو طريقٌ عظيم، ومع هذا كله تمنوا أن يكون لهم عجلاً يعبدونه من دون الله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ لأنفسكم:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾
العهد على الطاعة: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ هذه من آيات الدالة على عظمته، أي هددناكم بأن يقع الجبل عليكم إن لم تؤمنوا فآمنتم: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ السماع عند الله عزَّ وجل هو الاستجابة، السماع الذي يريده الله منك أن يعقبه استجابةٌ، لا أن يعقبه تجاهلٌ، يا أيها الذين آمنوا:
﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21)﴾
أنت إذا قلت لأحد: انتبه توجد عقرب شائلة على كتفك، يلتفت إليك بهدوء شديد، وبابتسامة، وبراحة نفسية، يقول لك: أنا شاكر جداً لهذه الملاحظة، وأرجو الله عزَّ وجل أن أكافئك عليها، وضعه الهادئ وعدم اكتراثه بكلمة عقرب معنى ذلك أنه ما سمع ما قلت له أبداً، لو سمع ما قلت له لخرج من جلده خوفاً، ولقفز من على الأرض، فالاستماع هو الاستجابة.
إعراض بني إسرائيل عن الله عزَّ وجل أدى إلى تشرب نفوسهم حُبّ الدنيا:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ ، ﴿عَصَيْنَا﴾ معطوفة على ﴿قَالُوا﴾ ، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ ما قلت لكن ﴿وَعَصَيْنَا﴾ :
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)﴾
غلبنا على أمرنا، لذلك أحياناً الإنسان يعصي الله لا لجهلٍ بالأمر والنهي ولكن لضعفٍ في نفسه، ولغلبة شهوته على قناعته، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ لما أعرضوا عن الله عزَّ وجل تشربت نفوسهم حُبَّ الدنيا، والعجل من ذهب يمثِّل الدنيا، وعندما يكون الإنسان بعيداً عن الله عزَّ وجل تأخذ الدنيا كل همه ومبلغ علمه، وحبّ الدنيا يدخل إلى خلاياه.
الساذج ضيق الأفق يتوهم أن الجنة له وحده وهذا الوهم قالته اليهود:
الآن ثلاث آيات:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)﴾
أي لكم وحدكم، توهم اليهود أن الجنة لهم وحدهم، أساساً يوجد أعرابي جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال: "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً"، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنِ أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ فِي صَلاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا». ))
يتوهم أناسٌ ساذجون ضيِّقو الأفق أن الجنة لهم وحدهم، وهناك جماعات إسلامية تتوهم أن الجنة لها وحدها، وأن ما سواهم على غير الحق، هذا وَهْمٌ مضحك، هذا الوهم قالته اليهود: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ أي لكم وحدكم: ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ .
ما وقع بين اليهود والنصارى وقع بين المسلمين كل فرقة تُكفّر الأخرى:
قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(111)﴾
وقال:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)﴾
كتاب واحد، وهذا الذي وقع بين المسلمين كل فرقةٍ تُكفِّر الأخرى وهم يتلون كتاباً واحداً، ومعهم سُنَّةٌ واحدة، هذا مرض، مرض العداوات، مرض البغضاء، مرض المشاحنات، مرض أن تُقيم مجدك على أنقاض الآخرين، مرض أن تُسفِّه كل رأيٍ إلا رأيك، هذا مرض خطير، هذا فتَّ في عضد المسلمين، هذا الذي مزَّق المسلمين، هذا الذي أضعفهم، هذا الذي جعلهم شَذَر مَزَر.
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
ادّعاء اليهود بأنهم أبناء الله وأحباؤه غير صحيح وإلا لما عذبهم الله بذنوبهم:
قال تعالى:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
معنى هذا ادعاؤكم غير صحيح، لو أن الله قَبِل دعواكم لما عذَّبكم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ .
أمة محمد المفضلة على أمم العالمين هي أمة الاستجابة لا أمة التبليغ:
كل من يقول الآن: أمة محمد، نحن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، أمة محمد المفضلة على أمم العالمين هي أمة الاستجابة لا أمة التبليغ، حلّ العلماء هذا الإشكال، هناك أمة الاستجابة وأمة التبليغ، الذين استجابوا لله وللرسول لما دعاهم، هؤلاء قال الله عنهم:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾
هذه الأمة علة خيريَّتها: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فإن لم نؤمن بالله حقّ الإيمان، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر، فنحن لسنا من أمة الاستجابة، إننا من أمة التبليغ، نحن كأية أمة من الأمم، ليس لنا أي شأنٍ عند الله عزَّ وجل.
الفرق بين المحسن والمسيء:
﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ والحقيقة:
﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)﴾
المستقيم يرجو لقاء الله، المحسن يتمنَّى لقاء الله، المحسن يشتاق إلى الله، لكن الظالم، الفاسق، الفاجر، الذي بنى مجده على أنقاض الناس، بنى ماله على إفقار الناس، هذا لن يتمنى لقاء الله لأن الله سيعذبه وقتها، ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ بالعكس:
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)﴾
إنسان محكوم بالإعدام مهما طالت مدة التوقيف لكن الإعدام ينتظره، مهما طالت هذه المدة، ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ .
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات .
الملف مدقق